ابن الحجار لا يكره الناس
قصة قصيرة
ميسون أسدي
أديبنا المرموق الذي وصل صيته إلى كلّ أرجاء العالم وترجمت قصصه لكل لغات الأرض وأثار الغيرة والحسد في قلب كلّ من مسك قلم. كلامه الجميل يسير بينما بسيطه أصعب. ذكر هذا الأديب الكبير في كلّ لقاء معه بأنّه عاش فترة سنوات طويلة في قريتي وبين أهلي ولكنّه لم يذكر شيئًا عن هذه الفترة التي أسّست بلوغه الأدبي ومهّدت طريق الشهرة أمامه، كون العديد من أهل هذه القرية يتذوّقون الأدب والشعر وما إلى ذلك. حيّرني هذا النكران طويلًا فتخيّلت أنّ أديبنا حفيف رهيف كأنّه طيف يطير في الجوّ ولا أحد في العالم بأسره سواه والسماء. شعرت بنفور تجاهه لسبب لا أعرف كنهه، حتّى توصّلت إلى الحقيقة…
***
كنت في سن المراهقة وأصغر قليلًا، حين توفي أحد أفراد عائلة الشربيني، العائلة الاقطاعية في قريتنا. ذهبت كعادتي لألعب مع كرميلا صديقة الطفولة وهي من تلك العائلة. كان خبر الوفاة ما زال طازجًا ويخيّم الحزن بشدّة على والدتها. لم أعر ذلك انتباهًا ولم أبال. حثثت كرميلا على الخروج للعب معي ومزاولة أنواع الشقاوة التي ابتكرتها واعتدنا عليها. أخبرتني كرميلا أن عمها توفي، فأجبتها بروح الطفولة:
– شو يعني!
– ……..
حثثتها ثانية وثالثة لتلعب معي حتّى صرخت والدتها بوجهي بملء صوتها وقالت:
– يا بنت، انت يا عفاف، ألا تعرفين من مات؟
– نعم أعرف- قلتها بطفولة ساذجة، فنهرتني بعصبيّة وقالت: ألا تعرفين بأنّ ظفر المرحوم يساوي مائة رجل من عائلتك؟
في الحقيقة، انّها امرأة فظة الطبع إلى أبعد الحدود. هي لم تقل ظفر، بل قالت كلمة نابية صعب على الأذن تقبلها، وعلى القلم تدوينها. فهمت بأنّ خطبًا ما في حديثها وكان هذا أوّل درس لي في نظام الطبقية والعائلية. اصفرّ واحمرّ وجهي خجلًا من الكلمة القاسية والنابية التي تفوهت بها والدة كرميلا بالعاميّة. لم تفهم انّه ينبغي عليها المساس بنفوس الآخرين بكل رفق. تركت صاحبتي مخذولة من جواب والدتها، وبعد عدّة أمتار التقيت بقريبتي وهي بسني وأخذنا نلعب معًا بلا تنغيص وهموم. نسيت كرميلا وأمّها وعادت فرحة الطفولة إلى محيّاي ومن ثمّ ذهبت لزيارة صديقة أخرى واللعب معها في الهواء الطلق بين كروم الزيتون.
***
لجأ سالم الطباش، والد أديبنا الذي ذكرته آنفًا، وزوجته ملكة وابناؤه الصغار إلى قريتنا بسبب الهجيج والتشريد والنكبة عام 1948 وقد تمّ اختيارهم لقريتنا لأنّ لهم قريبة متزوّجة من بيت الشربيني ومقيمة بيننا. عائلة الشربيني عائلة اقطاعية ذات نفوذ، تحلّ وتربط في قريتنا وبين القرى المجاورة، ولهم علاقات وثيقة مع الجهات المسؤولة. أمّا سالم الطباش فهو من أسرة المحراث، ووالده كانَ فلاحًا بلا حسبٍ ولا نسبٍ! كان سالم الطباش عاملًا كادحًا وفقيرًا جدًّا ويعمل في المحاجر في القرية المجاورة، فارق عهده بالابتسام وأصبح عبوسًا. لم يتناسب وضعه مع عائلة الشربيني التي لجأ إليها، فهم برجوازية ومناخيرهم في السماء ويتعاملون مع الناس بفوقيّة ما بعدها فوقيّة. وصل إلى مسامع الناس بأنّ تعاملهم مع عائلة سالم الطباش كان فظًّا وقاسيًا دون الدخول إلى حيثيات عنجهيتهم وقسوتهم، هذا الأمر ترك جرحًا عميقًا في نفوسهم لم تطبّبه السنون وخلفت وراءها ذكرى لا تطمس الألم في القلوب، فيمكن أن يفضي أضأل خلل إلى أوخم العواقب في النفوس. عندما تخرّج شقيق أديبنا بنجاح في الثانويّة، توجّه والده إلى زجّال القرية وهو من العائلات الميسورة ومعروف للداني والقاصي، يحيي الاعراس ويدخل البهجة إلى قلوب الناس. طفحت عينا سالم الطباش كآبة وأطلق زفرة عميقة وطلب من الزجال أن يساعده في تعيين ابنه في وظيفة حكومية كمدرّس فقال له الزجال بنفاذ صبر:
– لكنك مقيم عند أصحاب النفوذ – بيت الشربيني وهم من يقرّر لي ولك وللجميع ما شاءوا!
فأجاب الحجّار مهزوزًا مرجرجًا:
– دعني منهم، أنا توجهت إليك طلبًا للمساعدة.
فقال له الزجال بارتباك:
– بفرجها الله.
توجه الزجال إلى مفتّش التربية والتعليم في المنطقة وقال له:
ابن الحجار الكادح استاذ شاطر واشطر من ابنائي وعليك تعيينه مدرّسًا.
لم يستطع المفتش رفض طلبه لأنّ الزجال أحيا أعراس ابنائه ومئات الأعراس في المنطقة وضواحيها.. وهكذا تمّ تعيين أخ الأديب استاذًا في مدرسة القرية المجاورة لقريتنا وكان يتقاضى راتبًا محترمًا جدًّا لعائلة الحجار وابنائه حينذاك.
***
قرّرت عائلة الطباش، بعد سنوات عديدة من اللجوء إلى قريتنا، الانتقال للسكن في قرية أخرى مع العديد من أبناء قريتهم المهجرة، وقد شكلوا هناك نسبة كبيرة من تعداد القرية الأمر الذي أعاد الاحترام لأسرة الطباش وباقي اللاجئين.. في نفس الفترة، أخذ صيت أديبنا بالانتشار، ورويدا رويدا، وصل صيته إلى العالمية وقد عاش في خارج البلاد لسنوات عديدة، بعد ذلك قرّر أن يقيم لفترة وجيزة في مدينة غزة مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية ، فذهب وفد من وجهاء قريتنا إلى غزة لملاقاة الأديب الكبير وكان بينهم، شخصيات مرموقة وقيادية، كالأطباء والمحاسبين والمهندسين والمحاميين والرأسماليين وعلى رأسهم رجال من العائلة الشربيني الاقطاعية التي استقبلتهم عام 1948. انتظر الوفد في قاعة الانتظار طويلا. لم يهلهل الاديب الكبير، مضت نصف ساعة وتلتها نصف ساعة أخرى. اهتبل الضيوف فضاق بهم الانتظار ذرعًا، ووصل الاديب متأخّرًا جدًّا ممّا أثار حفيظة الموجودين ودخل عليهم بوجاهته ووسامته وبرصانته ومظهره الصارم وتأدبه المهذب وحيّا الحضور بألطف الكلمات وسلم عليهم، ووقف الوفد واحدا واحدا يعرف عن نفسه أمام الاديب الذي اعتذر منهم بأدب لأنّه لم يذكر أي واحد منهم ولا حتى أسماءهم.
***
حتى لحظة كتابة هذه الكلمات تتحدث أمي عن أديبنا بأنّه كان يأتي إلى بيتنا ويحمل ابنها البكر ويذهب بين كروم الزيتون يقرأ كتبه وابنها في حضنه ويطمئنها بأن لا تخشى على صغيرها، وحدثنا أبي بأنّه وقعت مناوشة بين والدة الاديب وقريبة له، فقام أبي بدعم قريبته ضد والدة الاديب بحجة "انا وأخي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب"، عشرات القصص الأخرى التي سمعتها من اعمامي واخوالي التي تحمل في طياتها نبذًا للاجئ من قبل الغني والفقير، ممّا جعل الكآبة في عيون عائلة الحجار تكاد تفطر القلب. مع كلّ هذا لم ولن أبرر جفاءه للبلد التي احتوته وصقلت موهبته.
***
للحقيقة وجهان، نفرت من اديبنا، لأنني سمعت من أهلي بأنّه كان جاحدًا في حقهم ولم يذكرهم في قصصه وأدبه فتجنبته، أو ممكن لأن اديبنا بوسامته ورقته وعيونه البنية اللون يذكرني بفصل الخريف فعندي هو الموسم المفروض للتعبير عن الحزن والكآبة وحتّى معاناة العواطف الشاعرية. ففي فصل الخريف هجرني حبيبي الأول وأنا واقعة في لجّة الغرام مستغلاً عدم خبرتي بمسالك الهوى وجذوره من نفس القرية المنكوبة التي خرج منها أديبنا.
*****
فاتني ان اذكر بأنّ أحد أقاربي وهو كاتب معروف على المستوى المحلي، كان من بين الوفد الذين زاروا أديبنا في غزة مع وجهاء القرية، وروى لي بأنّ أديبنا حين التقى بالوفد في غزة عرفهم وتذكرهم واحدًا واحدًا، لكنّه ادّعى بأنّه لم يعرفهم، فهو لم يشأ ان يتمسى ويتصبح بهذه الوجوه، اعتقدوا بأنّهم عقدوا معه على الود مدى العمر كله، لكنه لا يريد أن يذكر ويتذكر تلك الفترة.. ويضيف قريبي: معه حق، بالكلمات وحدها لا تبرأ نفس الانسان فقد لاقى هو وعائلته الويلات والمهانة أثناء اللجوء.. أديبنا لا يكره الناس، لكنه يتناسى الإساءة.