قصة قصيرة:
الرفيق قبل الطريق
ميسون أسدي
قالت وهي تعلم أن هناك آذانا صاغية حولها، مع أنها لا تستطيع أن تميّزهم بالنظر فقد حرمها الله من النظر، فبعد سنين طويلة من عمرها، شاهدت ما يكفي من الأحداث المثيرة:
في قريتنا الجبلية يزيّن الربيع الأرض كسابق عهده ويهيج المشاعر بالأمنيات. الشمس مشرقة. النسيم عليل وما أروع ذلك. ايقظتني شقشقة العصافير. فتحت عينيّ وأخذت أنصت لتغريدها الرائع كأنغام الناي. شرّقت لبير الشرق الواقع تحت مقام الخضر في قريتنا، حتّى أقطف الخبيزة وبعض من "زمبوط الصنارية" لأحوسها مع رأس بصل فيتغدّى أولادي عليها. غمر خير الربيع البلد، كان نبات الفقوع أعلى من أطول الرجال، طوله مترين. كنّا في صغرنا نصنع من الفقوع العرائش وننام تحتها. أردت وضع رجلي على "السنسلة"، وهي جدار فاصل بين حدود الأراضي مصنوع من أكوام الحجارة المتفاوتة الحجم، وإذ بطَيْرٌ باشق مِنْ فَصِيلَةِ الجَوَارِحِ بطول متر ونصف يحط بقرب مكان موقع قدمي ويلتقط أفعى بفمه ويحلّق بها وهي تلوح في كل اتجاه، صرخت فزعة بما أوتيت من قوّة. وحمدت ربي على هذه الصدفة التي أنقذتني من لدغة أفعى قاتلة، كنت سأبرك في مكاني دون أن يدري بي أحد وأفطس كالحيوانات…
استغلّ الزوج توقّف زوجته عن الحديث، فعلّق ساخرًا بكلّ هدوء وبصوت منخفض:
كان وجه الزوج العريض يعبّر عن خلو البال، لكنّ عينيه الصقريتين كانت قاسيتين تجاه ما سمعه من زوجته. كم أحببت يديه القويتين والمليئتين بالعقد كفُرعي سنديان. لم تعره الزوجة العجوز انتباهًا وواصلت حديثها وهي شديدة التأثّر كالعذارى اللواتي يغبن مع الأحلام:
انتبهت العجوز بأن جميع الحضور ما زالوا يصغون باهتمام لحكايتها، فطاب لها الحديث واسترسلت قائلة:
توقّفت العجوز عن الحديث واستلقت على ظهرها لتقطر الدواء في عيناها حتّى تخفّف من ضغطهما، ثمّ استأنفت قائلة ببساطة متناهية:
أخذت أفكّر بما سمعت منها، وبصراحة لم استوعب عمق ما قالت. انتهز الزوج فرصة توقفها عن الكلام، قال موجّهًا الحديث لي:
تأوّهت العجوز بكل استهزاء لما قاله زوجها وقالت بصوت خافت:
ولحسن حظّها أن الزوج أصم لا يسمع ما قالته، فواصل حديثه متفاخرًا:
*****
ما أثار انتباهي في قصص الزوجين العجوزين، أنّه تنبعث منهما صحّة مرحة حارّة، ويتحدّثان صدقًا عن كلّ ما يرد في بالهما. وهبتهما الطبيعة روحًا متّقدة، يتمتّعان بشهيّة ممتازة وحتمًا بالاتزان النفسي. وتباهيا أمامي بأيّام شبابهما وبما مضى ولكن لم يصدّق أحدهما الآخر، بل استهزأ الواحد بقصة رفيقه، مع أنه من وراء سطور الحكاية، أراد كل منهما لفت انتباه رفيقه رغم كبر سنّهما، فقد حطّمت الأيام أحلامهما الوردية وتفجرت الحياة الفظّة فاكتسحتهما بأمواجها العكرة، فهي فقدت نظرها وهو فقد سمعه وهما رفيقا الدرب لسنوات طويلة، واحتفلا منذ مدّة باليوبيل الماسي لزواجهما واقتربا من عقدهما التاسع. فكانا رِفاقا ورفقاءُ على طول الطريق. أمثال هؤلاء الناس يسيرون وهاماتهم في السحاب.
*****
انهما والداي، ودائما يستغلان زيارتي لهما، ليستفيضا بالحديث عن الزمن الغابر، وأنا أحثهما على ذلك، فأنا تتملكني رذيلة لا براء منها ألا وهي رذيلة الاستماع ورواية القصص وهذا الأمر بالنسبة لي جزء من الهدايا التي أحضرها لهما في زياراتي المتقطعة، فهما معًا بحاجة لرفيق يحثهما على الاستمرار في دربهما التي قاربت على نهايتها… بعد الكبر تخليا عن الازهار والسكاكر والموسيقى وعن كلّ مصدر للسعادة وجال الهدوء بيتهما وروحهما.